معاوية بن ابي سفيان مؤسس الدولة الأموية

معاوية بن ابي سفيان هو ولد أبو عبد الرحمن معاوية بن حرب بن صخر الأموي القريشي قبل البعثة بخمس سنين على أشهر الآراء، وكان والده أبو سفيان زعيمَ قريش وأحد سَراتها المعروفين، وأمه هند بنت عتبة من نساء قريش اللواتي يشار إليهن بالبنان، جمالا وثراء ونسبا.

وصفت الروايات التاريخية معاوية منذ نعومة أظفاره بالذكاء والفطنة، وجاء في طبقات ابن سعد أن أبا سفيان نظر يوما إلى ابنه معاوية وهو صغير فقال لأمه هند “إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه”، فقالت هند “ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة”.

معاوية بن ابي سفيان

نشأ معاوية في بيت توارث المنافسة مع بني هاشم، وحمل الضغينة على الإسلام وعلى نبيه ﷺ في وقت مبكر، فقد شهدت الجاهلية منافسة كبيرة بين البيتين القريشيين، الهاشمي والأموي، في حادثة التحكيم التي آلت فيها السيادة الدينية إلى هاشم وآله، وأخرجت أمية وبيته من مكة إلى الشام 10 سنين بحسب بنود الاتفاق.

وبعد بدر وفي أول صراع بين الإسلام وخصومه القريشيين، أسفرت الغزوة عن انتصار حاسم للمسلمين على قريش، ففقدت صناديدها وسادتها، وفيهم عتبة بن ربيعة جد معاوية، وشيبة بن ربيعة أخو جده، والوليد بن ربيعة خاله، وحنظلة بن أبي سفيان أخوه، وعقبة بن أبي معيط ابن عم أبيه. وأسر فيها أخوه عمرو بن أبي سفيان، الأمر الذي أوغر صدور البيت الأموي على المسلمين وبني هاشم ومحمد ﷺ ودعوته.

ولم يلن قلب معاوية ويصبُ إلى الإسلام حتى عمرة القضاء بعد صلح الحديبية، غير أنه كان يخاف ثورة والديه عليه، فلم يجهر بالإسلام حتى يوم فتح مكة، حيث لقي النبي ﷺ فرحب به وسُرّ.

وبعد الفتح هاجر إلى المدينة فاستكتبه النبي ﷺ، إذ كان معاوية ممن يحسن الكتابة والحساب، فدخل على النبي ﷺ وعلى أذنه القلم يقول: هذا قلم أعددته لله ورسوله، فقال له الرسول ﷺ: “جزاك الله عن نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله”.

سيّر أبو بكر الصديق يزيدَ بن أبي سفيان مع جيش من المسلمين إلى اليرموك لقتال الروم، وكان في جيشه والده أبو سفيان، ثم ضم إليه أخاه معاوية، حتى وصلوا أطراف الشام، فالتحم الجيشان في معركة ضارية أسفرت بعد تضحيات جسيمة عن نصر كبير أحرزه المسلمون.

وسلّم أبو عبيدة بن الجراح القائد العام لجيوش المسلمين في فتوح الشام يزيدَ بن أبي سفيان إمرة دمشق بعد الصلح مع أهلها، فقام بحمايتها من قادة الروم الغاضبين والمتوعدين برد الهزيمة، فأطبق عليهم هو وخالد بن الوليد المتجه إلى حمص، فأعملوا فيهم القتل حتى هزموهم وقتلوا قادتهم.

في هذه الأثناء توفي أبو بكر رضي الله عنه، وتسلم الخلافة عمر، وكان رضي الله عنه مولعا باستثمار طاقات الشباب من حوله، فالتفت إلى معاوية وأمره أن يتوجه إلى قيسارية بين حيفا ويافا لملاقاة الروم فيها.

وكانت واحدة من معارك الإسلام الخالدة، حيث قُتل نحو من 80 ألفا من الروم، وكان عمر معاوية آنذاك يناهز الـ33.

وعلى إثر هذه المعركة وبعد أن اجتاح طاعون عمواس بلاد الشام فذهب بأمرائها أبي عبيدة ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان، سلم عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان إمارة الشام.

وقد كان حسن السيرة في أهلها، ولما زاره عمر بن الخطاب فيها، قال يخاطب عبد الرحمن بن عوف: “لِحُسنِ موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه”، يعني بذلك ذكاءه وحسن سياسته الرعية.

ولما صار عثمان خليفة أقرّ معاوية على الشام، وضم إليه ما بقي من مدنها حتى صارت جميعها تحت حكمه، وظل معاوية يقود الجيوش لعثمان شمالا حتى وصل إلى أعتاب القسطنطينية.

ومن أهم ما سنّه معاوية في هذه الحقبة على صعيد الإنجازات العسكرية، ما عرف بنظام الصوائف والشواتي، وهي حملات عسكرية ودوريات منتظمة لحماية الحدود الإسلامية من جوارها المعادي، كما كان له الفضل في تكوين الأسطول البحري للدولة الإسلامية المتوسعة.

كانت أبرز المواجهات التي خاضها معاوية في ولايته على الشام ما خاضه مع جواره الرومي، فقد جمعت الروم في أواخر عهد عمر وبداية عهد عثمان جيوشا كبيرة لغزو بلاد الإسلام، فأرسل معاوية إلى عمر وكان قد قبض قبل وصول الرسالة، فتلقاها عثمان وأرسل إلى الولاة يحثهم على نجدة جند الشام.

وكان قائد جيوشه آنذلك حبيب بن سلمة الفهري، وهو صاحب نكاية كبيرة في الروم، فظل يجالد الروم حتى انتزعوا منهم الحصون وأصابوا منهم ما أصابوا.

وقد شن معاوية بنفسه عددا من المعارك في بلاد الروم، وأمن الطريق بين أنطاكيا وطرسوس، وانتزع من البيزنطيين الثغور الواقعة على الحدود الشمالية من بلاد الشام، وجعل من مدينة مرعش مركزا للجند لتكون قاعدة انطلاق وتوغل في بلاد الروم، وغزا بنفسه في أرضهم حتى وصل أطراف القسطنطينية.

وكان معاوية قد كتب إلى عمر إبان خلافته بغزو الجزر المحاذية للساحل الشامي، غير أن عمر لم يأذن بركوب البحر لأحد من المسلمين خوفا عليهم، ولما تسلم عثمان الخلافة كرر معاوية الطلب، فأذن له مشترطا أن يخير المسلمين دون أن يجبرهم على غزوات البحر.

وكانت أولى وجهاته البحرية جزيرة قبرص، فجمع جيشا كبيرا كان على رأسه عدد من كبار الصحابة، منهم أبو ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وأم حرام بنت ملحان، التي صار قبرها اليوم مزارا يزوره أهل الجزيرة مسلمين وغير مسلمين.

ولما وصلوا إلى الجزيرة تحصن أهلها وأبوا تسليم مدينتهم، لكنهم استسلموا بعد ساعات من حصار الجيش المنتصر الذي فرض شروطه عليهم.

تسلم معاوية بن أبي سفيان حكم الشام قرابة عقدين قبل أن يصير علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين، الأمر الذي جعله عارفا بمداخلها ومخارجها وطبيعة أهلها، ممسكا بزمام الحكم فيها، تربطه مع نخبتها علائق وثيقة جعلته يزداد تمكنا من الحكم والسيطرة فيها.

ولذا لما أراد علي عزله تحت ضغط من جيش الخلافة في العراق والمدينة، خرج جند الشام إلى واليه سهيل بن حنيف، الذي أراد علي توليته على الشام وردوه من حيث أتى، قائلين له “إن كان بعثك عثمان -وكان قد قُتل- فحيّهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع”.

وتسجل كتب المؤرخين ومن عني بتدوين أحداث هذه المرحلة أن منشأ الخلاف بين علي ومعاوية لم يكن على منصب الخلافة، فقد كان معاوية وأصحابه يعرفون لعلي أسبقيته وفضله وأحقيته بالخلافة، غير أن شرر الخلاف كان مبدؤه النارَ التي أشعلها مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه.

وقد كان معاوية ومن قبله طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأم المؤمنين عائشة -والثلاثة الأخيرون كانوا قد بايعوا عليا بالخلافة- يرون المسارعة في أخذ القصاص من قتلة عثمان.

وكان علي وصحبه يرون التروي قبل القصاص، حتى تهدأ النفوس وتستقر الأوضاع ويعود الغوغاء إلى بلادهم تاركين المدينة بعد الجريمة التي ارتكبوها، وليكون ذلك كان على معاوية وصحبه أن يبادروا بالبيعة لعلي بالخلافة.

ويقول ابن حزم عن الخلاف “لم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان”.

وقد استعصى هذا الخلاف حتى نشب الصراع بين المعسكرين في معركتين، كانت الأولى بين فريق طلحة والزبير وعائشة وفريق علي، فيما عرفت بمعركة الجمل التي وقعت في البصرة عام 36 هـ، وأسفرت عن صدع كبير بين المسلمين كانت له تبعاته الخطيرة في السنوات التالية.

وبعد أقل من عام، وقعت المعركة الثانية في صفين بالقرب من مدينة الرقة السورية، وقد انتهت بعد أن رفع معسكر معاوية المصاحف على أسنة الرماح، إحراجا لعلي وصحبه بعد أن مالت كفة النصر للعراقيين.

وقد ظل الخلاف مستعرا بين الطرفين لم يغير من اتجاهه إلا الانقسام الذي أحدثه الخوارج في معسكر علي، فاشتعلت في اتجاه آخر سلسلة جديدة من الفتن، لم يخمدها إلا استشهاد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ثم تولى من بعده ابنه الحسن مقاليد الخلافة، غير أن معسكره المضطرب والخلافات التي لا تهدأ بين صفوف أتباعه، والاستقرار الراسخ في معسكر خصمه، دفعه كل ذلك للتنازل عن الخلافة لمعاوية.

ليكون معاوية بن أبي سفيان سادس خلفاء المسلمين، كما كان العام الـ41 عام الجماعة بفضل حكمة الحسن وذكاء معاوية، وقد قال النبي ﷺ وهو مقبل على الحسن بن علي “إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ”.

قال ابن حزم “فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته”.

استطاع معاوية بعد أن استتب له أمر الخلافة أن يسكن النفوس الثائرة التي احتقنت منتصف خلافة عثمان، وأن يطفئ الثوارت التي اشتعلت في السنوات القليلة السابقة لحكمه إبان خلافة علي، وأن يجمع الجميع من صحابة وتابعين على بيعته، وذلك بالدهاء الذي عرف به، وبالسياسة التي أحسن إيرادها وإصدارها كما وصفه بذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.

وكان أبرز ما فعله هو اختيار الولاة الذين يعرف منهم قدرتهم على ضبط الساحات التي حكموها، فأقرّ عمرو بن العاص على مصر، ثم عهد بها إلى ابنه عبد الله بن عمرو من بعده.

وولى على العراق المغيرة بن شعبة، وهو أحد دهاة العرب، ولما توفي المغيرة عهد بالعراق إلى زياد بن أبيه، ثم إلى ابنه عبيد الله بن زياد، وعلى حكم المدينة تناوب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص.

وكان لمعاوية نظر بعيد في كل واحد من هؤلاء الولاة، فقد أرسل أشدهم بطشا إلى أكثر الساحات اضطرابا، كما بعث من عرف باللين منهم إلى المناطق التي لم تظهر فيها فتنة تؤرقه أو فوضى يمتد أثرها إلى عاصمة حكمه.

ومن أبرز أعماله التي شغل بها القبائل المتصارعة في الشرق تسيير الفتوح؛ فسيّر الجيوش التي تشكلت من هذه القبائل إلى جبهات مختلفة؛ فكانت الجبهة الغربية تسير باتجاه شمال أفريقيا على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وكانت بقيادة عقبة بن نافع.

والجبهة الشرقية كانت تحت قيادة المهلب بن أبي صفرة متوغلا في بلاد السند، وأما الجبهة الشمالية مع الروم فقد كان يقود طلائعها معاوية بنفسه في أحايين كثيرة.

وقد حقق معاوية بالمسارعة إلى الفتوح على الفور من استلامه زمام الحكم عددا من الأهداف، منها إشغال المتصارعين، وتهدئة الثورات، وإطفاء الغضب المشتعل منذ مقتل عثمان رضي الله عنه.

وأراد بذلك توسيع الأراضي الإسلامية، ونقل عدد من القبائل إليها بعيدا عن مركز الخلافة، كما حدث مع القبائل العربية في البصرة، والتي أسكنها خراسان وشغلها بالزراعة وأطمعها بالعطاء.

وكان من بين أعماله إبان خلافته توسيع الأسطول البحري الذي ابتدأه في زمن عثمان، فبلغ به 1700 سفينة، وبفضل هذا الأسطول تحول جزء كبير من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر إسلامي.

ومن أعماله كذلك تنظيم الدواوين التي ابتدأها عمر بن الخطاب على الطريقة الفارسية، فأضفى معاوية الصبغة الرومية المتبعة في الشام، ووضع عليها سرجون بن منصور المسيحي.

وكذلك فقد عمل على تنظيم البريد بأن جعله على مراحل؛ تُسْلِمه الأولى إلى الأخرى وصولا إلى غايته، وبذلك صار وصول الأخبار المهمة من الأقطار البعيدة إلى الشام مركز الخلافة أسرع وأوثق.

 

توفي معاوية في رجب سنة 60 هـ وقد ناهز الـ80، وكانت مدة خلافته 19 عاما و3 أشهر، وكان أميرا على الشام 20 عاما قبل ذلك، وصلى عليه الضحاك بن قيس، ودفن في دمشق.

غير أن ثورة العباسيين على الأمويين أزالت أي أثر ثابت لمدافن بني أمية، الذين حكموا العالم الإسلامي قرابة قرن.

ولذا فإن هناك خلافا وترددا في تحديد قبر معاوية، ولا يتعدى الضريح الموجود في مقبرة باب الصغير أن يكون قد بني في عهد المماليك، وجدد بعد ذلك في زمن العثمانيين.

Exit mobile version